قال الله
تعالى: وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ
[البقرة/91]. ت: قال في تفسير الجلالين {بِمَا وَرَاءَهُ} سواه أو بعده من القرآن {وَهُوَ
الحق} حال {مُصَدِّقاً} حال ثانية مؤكدة. وقال ابو السعود {مُصَدّقاً} حالٌ مؤكدة
لمضمون الجملةِ صاحبُها إما ضميرُ الحق وعاملَها ما فيه من معنى الفعل قاله أبو البقاء،
وإما ضميرٌ دل عليه الكلامُ وعاملها فعلٌ مضمرٌ، أي أُحِقُّه مصدِّقاً. وعن ابن
عجيبة وهم {يَكْفُرُونَ بِمَا ورَاءَهُ} أي: بما سواه، وهو القرآن، حال كونه {مُصَدِّقاً
لِّمَا مَعَهُمْ}. وقال الطوسي قوله:
" هو الحق مصدقا " يعني القرآن مصدقا لما معهم - ونصب على الحال -
ويسميه الكوفيون على القطع. انتهى وقوله على القطع يفصله الطبرسي حيث قال : قوله «
مصدقا » نصب على الحال و هذه حال مؤكدة قال الزجاج زعم سيبويه و الخليل و جميع
النحويين الموثوق بعلمهم أن قولك هو زيد قائما خطأ لأن قولك هو زيد كناية عن اسم
متقدم فليس في الحال فائدة لأن الحال يوجب هاهنا أنه إذا كان قائما فهو زيد و إذا
ترك القيام فليس بزيد فهذا خطأ فأما قولك هو زيد معروفا و هو الحق مصدقا ففي الحال
هنا فائدة كأنك قلت أثبته له معروفا و كأنه بمنزلة قولك هو زيد حقا فمعروف حال
لأنه إنما يكون زيدا بأنه يعرف بزيد و كذلك القرآن هو الحق إذا كان مصدقا لكتب
الرسل (عليهم السلام). انتهى، اقول قوله (كذلك القرآن هو الحق إذا كان مصدقا لكتب
الرسل) هو نص أصل التصديق (المصدقية) بان المصدقية من ملازمات الحق وعلاماته، وكلام
الاعلام المتقدم يوجب الجزم بذلك اظهرها قول ابو السعود (احقه مصدقا).
وقال
تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
[آل عمران/3] ت وهو كسابقه. الا انه عبر
(بالحق)، وما يكون بالحق هو الحق، كما ان بالحق فيه ميزة إضافية انه ملازم له وهو
ما ينفي عنه الباطل من تحريف ونحوه، كما انه ينفي انعدام الحق به وهو موجب لمن
يعلم بالحق به ويعلمه بالحق.
قال
تعالى: وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا
أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ [البقرة/41] ت: قال السعدي { مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ }
أي: موافقا له لا مخالفا ولا مناقضا، فإذا كان موافقا لما معكم من الكتب، غير
مخالف لها; فلا مانع لكم من الإيمان به، لأنه جاء بما جاء به المرسلون، فأنتم أولى
من آمن به وصدق به، لكونكم أهل الكتب والعلم. وقال السمرقندي {وَءامِنُواْ بِمَا
أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ}، أي صدقوا بهذا القرآن الذي أنزلت على محمد
صلى الله عليه وسلم مصدقاً أي موافقاً لما معكم.
قال الطبرسي « آمنوا » أي صدقوا « بما نزلنا » يعني بما نزلناه على محمد
(صلى الله عليه وآله وسلّم) من القرآن و غيره من أحكام الدين « مصدقا لما معكم »
من التوراة و الإنجيل اللذين تضمنتا صفة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) و صحة
ما جاء به. قال الطوسي :" آمنوا " معناه صدقوا، لانا قد بينا ان الايمان
هو التصديق " بما انزلت " يعني بما انزلت على محمد " صلى الله عليه
و اله " من القرآن. وقوله: " مصدقا " يعني ان القرآن مصدق لما مع
اليهود من بني اسرائيل من التوراة وامرهم بالتصديق بالقرآن، واخبرهم ان فيه
تصديقهم بالتوراة، لان الذي في القرآن من الامر بالاقرار بنبوة محمد " ص
"، وتصديقه نظير الذي في التوراة والانجيل وموافق لما تقدم من الاخبار به،
فهو مصداق ذلك الخبر وقال قوم: معناه انه مصدق بالتوراة والانجيل الذي فيه الدلالة
على انه حق والاول الوجه، لان على ذلك الوجه حجة عليهم، دون هذا الوجه. انتهى اقول
المصدق ان الاحتجاج بالمصدقية اي كون السابق مصداقا للتالي مما يدل على ان الثاني
هو الحق يجب الايمان به. ولاحظ كيف امر الله تعالى بالايمان لاجل انه مصدق، فوضع
المصدقية بدلا من الحق المصرح به في آيات اخرى. فجعل الموجب للإيمان هنا المصدقية وقد
جعل موجبها الحق في آيات اخر، وهذا فيه نوع من البدلية للملازمة. وهو من ادل ادلة اصل
المصدقية وان التصديق علامة الحق والصدق.
قال
تعالى: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [فاطر/31]. ت: وهو يشعر ايضا بالملازمة بين الكتاب (الحق) والمصدقية
و يجري فيه الكلام السابق. ويكشف بان من صفات ما يكون من الكتاب انه مصدق ويصدق
بعضه بعضا، والكتاب يستفاد منه انه مثال للمعارف الشرعية فيجري فيها أصل المصدقية وان
علامة كون المعرفة شرعية ومن الكتاب انها مصدقة. وهذا الاثبات هو ذاتي للكتابية
والشرعية بخلاف غيرها فانه اثبات للحق والصدق ومن خلالهما يثبت انه الكتاب وانه من
الله تعالى. وهذا ما يمكن من القول ان الفروع الاستنباطية ليست إضافات خارجية على
الشريعة والكتاب وانما هي امتدادات للكتاب وتفرعات تنتمي اليه حقيقة وان كان
انتماء معرفيا وليس تنصيصا.
قال
تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء/82] ت: قال السعدي (ومن فوائد التدبر لكتاب الله: أنه
بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه يصدق بعضه بعضا،
ويوافق بعضه بعضا. فترى الحكم والقصة والإخبارات تعاد في القرآن في عدة مواضع،
كلها متوافقة متصادقة، لا ينقض بعضها بعضا، فبذلك يعلم كمال القرآن وأنه من عند من
أحاط علمه بجميع الأمور، فلذلك قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} أي: فلما كان من عند الله لم يكن
فيه اختلاف أصلا. وقال ابن عجيبة يقول الحقّ جلّ جلاله : أفلا يتدبر هؤلاء
المنافقون { القرآن } ، وينظرون ما فيه من البلاغة والبيان ، ويتبصّرون في معاني
علومه وأسراره ، ويطلعون على عجائب قصصه وأخباره ، وتَوافُق آياتهِ وأحكامه ، حتى
يتحققوا أنه ليس من طوق البشر ، وإنما هو من عند الله الواحد القهار ، { ولو كان
من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا } بَين أحكامه وآياته ، من تَفَاوتِ
اللفظ وتناقض المعنى ، وكَون بعضه فصيحًا ، وبعضه ركيكًا، وبعضه تصعب معارضته
وبعضه تسهل ، وبعضه توافق أخباره المستقبلة للواقع ، وبعضه لا يوافق ، وبعضه يوافق
العقل ، وبعضه لا يوافقه ، على ما دل عليه الاستقراء من أن كلام البشر ، إذا طال ،
قطعًا يوجد فيه شيء من الخلل والتناقض. قال الطوسي " نزله على قلبك " يا
محمد " مصدقا لما بين يديه " يعني القرآن، ويعني مصدقا لما سلف من كتب
الله امامه التي انزلها على رسله، وتصديقا لها: موافقة لمعانيها. انتهى اقول
المصدق ان السابق يكون مصداقا و مصدقا للتالي فقوله مصدقا لما قبله اي موافقا
وبهذه الموافقة يكون السابق مصداقا للموافق. قال الطبرسي و قوله « مصدقا لما بين يديه » معناه موافقا
لما بين يديه من الكتب و مصدقا له بأنه حق و بأنه من عند الله لا مكذبا لها . وقال
في موضع اخر « مصدقا لما بين يديه » أي
لما قبله من كتاب و رسول عن مجاهد و قتادة و الربيع و جمع المفسرين و إنما قيل لما
بين يديه لما قبله لأنه ظاهر له كظهور الذي بين يديه و قيل في معنى مصدقا هاهنا
قولان ( أحدهما ) أن معناه مصدقا لما بين يديه و ذلك لموافقته لما تقدم الخبر به و
فيه دلالة على صحة نبوته (صلى الله عليه وآله وسلّم) من حيث لا يكون ذلك كذلك إلا
و هو من عند الله علام الغيوب ( و الثاني ) أن معناه أن يخبر بصدق الأنبياء و بما
أتوا به من الكتب. ولا يكون مصدقا للبعض ومكذبا للبعض. انتهى اقول الوجه هو الأول.
ولاحظ قوله (و فيه دلالة على صحة نبوته
(صلى الله عليه وآله وسلّم) من حيث لا يكون ذلك كذلك إلا و هو من عند الله علام
الغيوب) فانه بين ان الموافقة دالة على الصحة، بل هو نص في اصل المصدقية وانها
علامة للصدق والحقيقة، و استدلاله مستند على الفهم العقلائي بان ما هو كذلك لا
يكون الا حقا من عالم الغيب لاجل الموافقة. وذكر القران من المثال للحق الشامل
للقران والسنة اي للمعارف الدينية. وان من اهم معجزات المعارف الشرعية - مع عددها
الكبير جدا الذي هو بالآلاف من القضايا- انها غير متعارضة ولا متناقضة فكان هذا
كاشفا ان التوافق والتناسق اوليا فيها وذاتيا. وهذا في المعارف المعلومة فينبغي ان
لا يخل بذلك بمعارف ظنية بل ينبغي ايضا ان تكون بلا تناقض ولا اختلاف ومتوافقة ومتناسقة
مع المعلوم من الشرع.
اقول
ان هذه الايات تدل على ان المصدقية مما يوجب الاطمئنان ومعرفة الحق وتمييزه ان لم
نقل بانها ملازمة لذلك، وان عدم المصدقية مما يبعث على عدم الاطمئنان ان لم يمنعه.
وان هذا الاصل بمعية الاصل السابق والاصل العقلائي بل الفطري من العرض والرد في
التمييز والفرز يحقق نظاما معرفيا معلوما وثابتا، هو مصدق وشاهد لحديث العرض. بل
ان هذه الاصول بنفسها كافية في اثبات العرض ولو من دون الحديث. وهل حديث العرض في
حقيقة الامر الا من فروع تطبيقات تلك الاصول ومصداق لها وليس تأسيسا لمعرفة مستقلة
وهو ظاهر لكل متتبع.
والتصديق
(المصدقية) معرفيا هي الموافقة وليست شيئا أخص منها كما قد يتصور، وذلك بوجود
الشاهد والمصدق وعامل الاتساق والتناسق، فيكون الاختلاف وعدم الموافقة عدم الشاهد
وعدم المصدق وانعدام عوامل الاتساق والتناسق. ان أي خلل في التناغم والاتناسق والاتساق هو عدم موافقة. ومن هنا
يتبين ان الموافقة ليست عدم التعارض بل الموافقة عدم التناسق، كما ان عدم الموافقة
ليس التعارض والتقاطع بل عدم التناسق وعدم الاتساق، كما ان الموافقة ليست المطابقة
بل التناسق والاتساق. فالتصديق (المصدقية) قد يكون بوجود مصدق مطابق او مصدق موافق
دلاليا، او وجود شاهد معرفي مطابق او موافق معرفيا. وعدم الموافقة قد تكون
بالتعارض؛ سواء التعارض المستقر التام او التعارض الذي لا يقبل الجامع عرفا، او
بعدم الاتساق وعدم التناسق دلاليا او معرفيا.
ومن هنا يتبين جليا ان الموافقة التي في حديث
العرض يراد بها ان يكون له مصدق وشاهد واصل في القران والسنة وليس مطلق عدم
المخالفة وهذا هو معنى الموافقة لنصوص القران والموافق لحقيقة الاتصال المعرفي والاتساق
وعليه أحاديث نصت على ذلك سياتي ذكرها. وهذا الشرط هو الكفيل فعلا بإخراج الخبر من
الظن الى العلم والكفيل بتحقيق الاتصال المعرفي.